حين جاء الطاعون ولم نكن مستعدّين: قراءة متأملة في رواية "الطاعون" لألبير كامو

أتذكّر اللحظة الأولى التي بدأ فيها الموت يتسلّل إلينا، لا كعاصفة، بل كفأرٍ واحد يحتضر عند مدخل عمارة في مدينة وهران. لم نهتم كثيرًا، أطلقنا النكات، وتوقّعنا أن يأتي أحد من البلدية لينهي الأمر. لكنه لم يأتِ. ولم نأتِ نحن أيضًا. فقد كنا ماهرين في الانتظار أكثر من الفعل.

The Plague

شيئًا فشيئًا، بدأت الجرذان تظهر بأعداد أكبر، تموت على الأرصفة، وتغمر الأزقة، كأنها تنزف تاريخًا لم نقرأه. ثم بدأ الناس يشعرون بالحمّى. قيل إنها نزلة برد. لكن الجسد يعرف متى يكذب عليه صاحبه. وهكذا، وجدنا أن الطاعون قد دخل، بصمت، ولم يكن "قادمًا"... بل "كان هنا".

أُغلقت الأبواب.

في البداية، لم نصدق. الصمت كان ثقيلًا بلا شكل. ثم توقفت القطارات. ثم اختُصرت الجنائز. ثم تغيّر خطاب الكهنة، وتحوّل قاموس الصحفيين، وبدأ العشّاق ينسون ملامح من يحبّون.

رأيت المدينة تنكمش، لا من حيث المساحة، بل من حيث الأخلاق. تحول الكرم إلى تعصّب للعائلة، وتحوّل الأمل إلى شعارات جوفاء. كنا ننتظر شيئًا: علاجًا، إشارة، معجزة. فجاءنا الدكتور ريو.

لم يكن ريو بطلاً تقليديًا، بل رجل عادي الطلّة، يحمل في داخله صلابة لا تُشبه التفاؤل، بل تُشبه الوضوح. لم يكن يقدّم وعودًا بالنصر، بل فقط رفضًا للاستسلام. يعالج، يصمت، يراقب الموت كمن يعرفه جيدًا. وقد كان.

ثم كان تارو، رجل ناعم الملامح، عميق السكون، يتقدّم حين يتراجع الجميع، يُمسك بأيدي المدينة المرتعشة بلا كلمات زائدة، وكأنه يدفن في كل فعلٍ جزءًا من نفسه القديمة.

ورامبير، الصحفي الذي حاول الهرب من المدينة ليعود لحبيبته، ثم بقي، لا لأنه آمن، بل لأنه خجل. أو لأنه اكتشف أن الحب لا يهرب في المحن، بل يبقى حتى النهاية.

أما الكاهن بانلو، فقد بدأ بخطبة نارية: الطاعون غضب من الله، تطهير للمذنبين. لكنه تغيّر. حين مات طفل بين يديه، بدأ يشكّ، يخفت صوته، ويموت هو الآخر، ربما من الحزن، وربما لأنه لم يعد يعرف كيف يبرر الألم.

أتذكّر الطفل. أذكر نظرة ريو وهو واقف عند سريره، عاجزًا عن تحريك عينيه. هناك توقفت الفلسفة. هناك صرخ المنطق وسقط.

مع مرور الوقت، أصبح الحزن إجراءً يوميًا. أصبحنا نتحدث بلغة جديدة: لغة السعال، لغة الحداد الصامت، لغة غياب الرسائل. فالحب، كما تعلّمت، يحتاج ذاكرة. والذاكرة تضعف في العزلة.

لكن ريو لم يتوقف. حتى بعد موت تارو. حتى بعد أن بدأت الأرقام تنخفض. حتى بعد أن ملّ الطاعون منا وانسحب.

عندما فُتحت الأبواب، امتلأت الشوارع بالقبلات، والضحكات، والصراخ. الناس تصرّفوا وكأن الكابوس انتهى. لكن ريو وقف جانبًا، يحدّق في السماء، ليس بحثًا عن إجابة، بل عن علامة. لأنه يعرف ما رفض الآخرون تصديقه:

الطاعون لا يموت.

هو ينام فقط.

ينتظر... في الكتب، وفي الزوايا، وفي البيروقراطية، وفي القلوب. ينتظر لحظة ضعف، أو غفلة، ليعود ويذكّرنا: أن الطمأنينة مؤقتة، والكرامة قرار.

عدت إلى منزلي في أول مطر صيفي، ثملًا بصوت الفرح، وفهمت أخيرًا:
الطاعون لم يكن عن المرض. بل عن الكرامة.

الكرامة التي لا تُعلّق على الصدر، بل التي تُزرع في العمود الفقري حين يتوقّف العالم عن المنطق.

وكان ريو محقًا.

لا يوجد نصر نهائي. هناك فقط النضال.
وهذا النضال، أصبح الآن... نضالنا.